سورة الشورى - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الشورى)


        


{أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} جملةٌ مستأنفةٌ مقربةٌ لما قبلَها من انتفاءِ أنْ يكونَ للظالمينَ ولي أو نصيرٌ وأمْ منقطعةٌ وما فيَها من بلْ للاننقال من بيانِ ما قبلَها إلى بيانِ ما بعدَها والهمزةُ لإنكارِ الوقوعِ ونفيِه على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه لا لإنكارِ الواقعِ واستقباحِه، قيلَ: إذِ المرادُ بيانُ أنَّ ما فعلُوا ليسَ من اتخاذِ الأولياءِ في شيءٍ لأنَّ فرعُ كونِ الأصنامِ أولياءَ، وهو أظهرُ الممتنِعاتِ أيْ بلْ أتخذُوا متجاوزينَ الله أولياءَ من الأصنامِ وغيرِها هيهاتَ. وقولُه تعالَى {فالله هُوَ الولى} جوابُ شرطٍ محذوفٍ، كإنَّه قيلَ بعدَ إبطالِ ولايةِ ما اتخذُوه أولياءَ إنْ أرادُوا ولياً في الحقيقةِ فالله هُو الوليُّ لا وليَّ سواهُ {وَهُوَ يُحْىِ الموتى} أيْ ومن شأنِه ذلكَ {وَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ} فهُو الحقيقُ بأنْ يتخذَ ولياً فليخصُّوه بالاتخاذِ دونَ من لا يقدرُ على شيءٍ.
{وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَىْء} حكايةٌ لقولِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنينَ أيْ وما خالفَكُم الكفارُ فيهِ منْ أمورِ الدِّينِ فاختلفتُم أنتمُ وهُم {فَحُكْمُهُ} راجعٌ {إِلَى الله} وهو إثابةُ المحقِّينَ وعقابُ المُبطلينَ {ذلكم} الحاكمُ العظيمُ الشأنِ {الله رَبّى} مالِكِي {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في مجامعِ أُمُورِي خاصَّة لاَ على غيرِه {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أرجعُ في كلِّ ما يَعنُّ لي منْ مُعضلاتِ الأمورِ لا إلى أحدٍ سواهُ وحيثُ كانَ التوكُّل أمراً واحداً مستمراً والإنابةُ متعددة متجددة حسب تجّدُدِ موادّهِا أُوثرَ في الأولِ صيغةُ الماضِي، وفي الثَّانِي صيغةُ المضارعِ، وقيلَ: وما اختلقتُم فيه وتنازعتُم في شيءٍ من الخصوماتِ فتحاكمُوا فيهِ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ولا تُؤثروا على حكومتِه حكومةَ غيرِه، وقيلَ: وما اختلفتُم فيه من تأويلِ واشتبَه عليكُم فارجِعوا في بيانه إلى المحكمِ من كتابِ الله والظَّاهرِ من سُنَّةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وقيلَ: وما وقعَ بينكُم الخلافُ فيهِ من العلومِ التي تتعلقُ بتكليفِكم ولا طربقَ لكُم إلى علمِه فقولُوا الله أعلمُ كمعرفةِ الرُّوحِ ولا مساغَ لحملِ هذا على الاجتهادِ لعدمِ جوازِه بحضرةِ الرَّسولِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ {فَاطِرَ السموات والأرض} خبرٌ آخرُ لذلكُم أو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أو مبتدأ خبرُهُ {جَعَلَ لَكُمُ} وقرئ بالجرِّ على أنَّه بدلٌ منَ الضميرِ أو وصفٌ للاسمِ الجليلِ في قولِه تعالَى إلى الله وما بينُهَما اعتراضٌ بينَ الصفةِ والموصوفِ {مّنْ أَنفُسِكُمْ} من جنسِكم {أزواجا} نساءً وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على المفعولِ الصريحِ قد مرَّ سرُّه غيرَ مرةٍ {وَمِنَ الأنعام} أي وجعلَ للأنعامِ من جنْسِها {أزواجا} أو خلقَ لكُم من الأنعامِ أصنافاً أو ذكوراً وإناثاً {يَذْرَؤُكُمْ} يكثّركم من الذرْءِ وهو البثُّ وفي معناهُ الذَّرو والذَّرُّ {فِيهِ} أي فيما ذُكِرَ من التدبيرِ فإنَّ جعلَ الناسِ والأنعامِ أزواجاً يكونُ بينَهم توالدٌ كالمنبعِ للبثِّ والتكثيرِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء} أي ليسَ مثلَه شيءٌ في شأنِ من الشؤونِ التي من جُمْلتِها هَذا التدبيرُ البديعُ والمراد من مثله ذاتُه كَما في قولِهم مثلُكَ لا يفعلُ كَذا على قصدِ المبالغةِ في نفيهِ عنهُ فإنَّه إذا نُفيَ عمَّن يناسبُه كانَ نفيُه عْنهُ أَوُلى ثمَّ سُكلتْ هذهِ الطريقةُ في شأنِ مَنْ لا مثلَ لهُ وقيلَ: مثلُه صفتُه أيْ ليسَ كصفتِه صفةٌ {وَهُوَ السميع البصير} المبالغُ في العلمِ بكلِّ ما يسمعُ ويُبصَرُ.


{لَّهُ مَقَالِيدُ السموات والأرض} أيْ خَزَائنُهُما {يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ} يوسعُ ويضيقُ حسبما تقتضيهِ مشيئتُه المؤسسةُ على الحِكَمِ البالغةِ {إِنَّهُ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ} مبالغٌ في الأحاطةِ به فيفعلُ كلَّ ما يَفعلُ على ما ينبغِي أنُ يُفعلَ عليه، والجملةُ تعليلٌ لما قبلَها وتمهيدٌ لما بعدَها من قولِه تعالى: {شَرَعَ لَكُم مّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى} وإيذانٌ بأنَّ ما شرعَ لهم صادرٌ عن كمالِ العلمِ والحكمةِ كما أن بيانَ نسبتهِ إلى المذكورينَ عليهم الصلاةُ والسلامُ تنبيهٌ على كونِه ديناً قديماً أجمعَ عليه الرسلُ. والخطابُ لأمَّتهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أيْ شرعَ لكُم من الدينِ ما وصَّى به نوحاً ومَنْ بعدَه من أربابِ الشرائعِ وأولي العزائمِ من مشاهيرِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وأمرَهُم به أمراً مؤكداً، على أنَّ تخصيصَهُم بالذكرِ لما ذُكِرَ من علوِّ شأنِهم ولاستمالِة قلوبِ الكفرةِ إليه لاتفاقِ الكلَّ على نبوةِ بعضِهم، وتفردِ اليهودِ في شأنِ مُوسى عليه السَّلامُ وتفردِ النَّصارى في حقِّ عيسى عليه السلام وإلا فَما منْ نبيَ إلا وهُو مأمورٌ بما أُمِروا به، وهو عبارةٌ عنِ التوحيدِ ودينِ الإسلامِ وما لا يختلفُ باختلافِ الأممِ وتبدلِ الأعصارِ من أصولِ الشرائعِ والأحكامِ كما ينبىءُ عنه التوصيةُ فإنها معربةٌ عن تأكيد الأمرِ والاعتناءِ بشأن المأموريةِ والمرادُ بإيحائِه إليهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إمَّا مَا ذُكِرَ في صدرِ السُّورةِ الكريمةِ وفي قولِه تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا} الآيةَ أو ما يعمُّهما وغيرَهُما مما وقعَ في سائر المواقعِ التي من جُمْلتِها قولُه تعالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا} وقولُه تعالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ} وغيرُ ذلكَ. والتعبيرُ عن ذلكَ عند نسبتِه إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالذي لزيادة تفخيمِ شأنِه من تلك الحيثيةِ، وإيثارُ الإيحاءِ على ما قبلَهُ وما بعَدُه من التوصيةِ لمراعاة ما وقعَ في الآيات المذكورةِ ولِما في الإيحاءِ من التصريحِ برسالتهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ القامعِ لإنكار الكفرةِ، والالتفاتُ إلى نون العظمةِ لإظهار كمالِ الاعتناءِ بإيحائِه وهو السرُّ في تقديمِه على ما بَعدُه مع تقدِّمهِ عليهِ زماناً، وتقديمُ توصيةِ نوحٍ عليهِ السَّلامُ للمسارعة إلي بيان كونِ المشروعِ لهم ديناً قديماً، وتوجيه الخطابِ إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلام بطريق التلوين للتشريف والتنبيهِ على أنَّه تعالَى شرعَهُ لهم على لسانِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. {أَنْ أَقِيمُواْ الدين} أي دينَ الإسلامِ الذي هو توحيدُ الله تعالى وطاعتُه والإيمانُ بكتبه وبرسله وبيوم الجزاءِ وسائرِ ما يكونُ الرجلُ بهِ مُؤمناً. والمرادُ بإقامتِه تعديلُ أركانِه وحفظُه منْ أنْ يقعَ فيه زيغٌ أو المواظبةُ عليه والتشمّرُ له، ومحلُّ أنْ أقيمُوا إما النصبُ على أنَّه بدلٌ منْ مفعول شرع، والمعطوفين عليهِ أو الرفعُ على أنه جوابٌ عن سؤالٍ نشأَ منْ إبهامِ المشروعِ كأنَّه قيلَ: وما ذاكَ فقيلَ هو إقامةُ الدينِ، وقيلَ: بدلٌ من ضمير به وليسَ بذاكَ لما أنَّه معَ إفضائه إلى خروجه عن حيز الإيحاءِ إلى النبيِّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مستلزمٌ لكون الخطابِ في قوله تعالَى: {وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} للأنبياءِ المذكورينَ عليهمْ الصَّلاةُ والسَّلامُ وتوجيه النَّهي إلى أممهم تمحّلٌ ظاهرٌ مع أنَّ الأظهرُ أنَّه متوجهٌ إلى أمته صلى الله عليه وسلم وأنَّهم المتفرقونَ كما ستحيطُ به خبراً أي تتفرقُوا في الدين الذي هُو عبارةٌ عمَّا ذكر من الأصولِ دونَ الفروعِ المختلفةِ حسبَ اختلافِ الأممِ باختلافِ الأعصارِ كما ينطقُ بهِ قوله تعالى: {لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجَاً} وقولُه تعالَى: {كَبُرَ عَلَى المشركين} شروعٌ في بيانِ أحوالِ بعضِ مَنْ شرعَ لهم ما شرع من الدينِ القويمِ أي عظُم وشقّ عليهم {مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} من التوحيدِ ورفضِ عبادةِ الأصنامِ واستبعدُوه حيثُ قالُوا: {أَجَعَلَ الألهة إلها واحدا إِنَّ هذا لَشَىْء عُجَابٌ} وقولُه تعالَى: {الله يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَاء} استئنافٌ واردٌ لتحقيق الحقِّ وفيه إشعارٌ بأنَّ منهُم من يجيبُ إلى الدعوة أي الله يجتلبُ إلى ما تدعُوهم إليهِ مَنْ يشاءُ أنْ يجتبَيُه إليهِ وهُو من صَرفَ اختيارَهُ إلى ما دُعِيَ إليه كما ينبىءُ عنه قولُه تعالى: {وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} أي يُقبلُ إليه حيثُ يمدُّه بالتوفيق والألطافِ.


وقولُه تعالَى: {وَمَا تَفَرَّقُواْ} شروعٌ في بيان أحوالِ أهلِ الكتابِ عقيبَ الإشارةِ الإجماليةِ إلى أحوالِ أهلِ الشركِ قال ابنُ عبَّاسٍ رضيَ الله عنُهمَا هُم اليهودُ والنَّصارى، لقولِه تعالَى: {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة} أي وما تفرقُوا في الدينِ الذي دُعوا إليهِ ولم يُؤمنوا كما آمنَ بعضُهم {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم} بحقِّيتِه بما شاهُدوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآنِ من دلائلِ الحقِّيةِ حسبما وجدُوه في كتابِهم، أو العلمُ بمبعثِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وهو استثناءٌ مفرغٌ من أعمِّ الأحوالِ أو من أعمِّ الأوقاتِ أي وما تفرقُوا في حالٍ من الأحوالِ أو في وقتٍ من الأوقاتِ إلا حالَ مجيءَ العلمِ {بَغْياً بَيْنَهُمْ} وحميةً وطلباً للرياسة لا لأنَّ لهم في ذلكَ شبهةً {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ} وهي العِدَةُ بتأخير العقوبةِ {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} هو يومُ القيامةِ {لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ} لأوقعَ القضاءَ بينَهم باستئصالِهم لاستيجاب جناياتِهم لذلك قطعاً. وقولُه تعالَى {وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ} إلخ بيانٌ لكيفية كفر المشركينَ بالقرآنِ إثرَ بيانِ كيفيةِ كفرِ أهلِ الكتابِ. وقرئ: {وَرِثُوا} و{وُرِّثُوا} أيْ وإنَّ المشركينَ الذينَ أُورثوا القرآنَ من بعدِ ما أُورثَ أهلُ الكتابِ كتابَهم {لَفِى شَكّ مّنْهُ} من القرآن {مُرِيبٍ} موقعٌ في القلق أو في الريبةِ ولذلكَ لا يُؤمنونَ به لا لمحض البغِي والمكابرةِ بعد ما علمُوا بحقِّيتِه كدأب أهلِ الكتابينِ.
هذا وأمَّا ما قيلَ: منْ أنَّ ضميرَ تفرقُوا لأمم الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وأنَّ المرادَ تفرقُ كلِّ أمةٍ بعدَ نبيِّها مع علمِهم بأنَّ الفرقةَ ضلالٌ وفسادٌ وأمرٌ متوعدٌ عليهِ على ألسنة الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ فيردّه قولُه تعالَى: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِىَ بِيْنَهُمْ}، وكذا ما قيلَ من أنَّ الناسَ أمةً واحدةً مؤمنينَ بعد ما أهلكَ الله تعالَى الأرضَ بالطوفان فلما ماتَ الآباءُ اختلفَ الأبناءُ فيما بينُهم وذلك حين بعث الله تعالى النبيين مبشرين ومنذرين وجاءهُم العلمُ وإنما اختلفُوا للبغِي بينَهم فإنَّ مشاهيرَ الأممِ المذكورةِ قد أصابُهم عذابُ الاستئصالِ من غير إنظارٍ وإمهالٍ، على أنَّ مساقَ النظمِ الكريمِ لبيان أحوالِ هذه الأمةِ، وإنما ذُكِرَ من ذُكِرَ من الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ لتحقيق أنَّ ما شرع لهؤلاء دين قديم أجمع عليه أولئك الأعلام عليهم الصلاة والسلام تأكيداً لوجوب إقامتِه وتشديداً للزجرِ عن التفرق والاختلافِ فيه فالتعرضُ لبيان تفرقِ أممِهم عنه ربَّما يُوهم الإخلالَ بذلكَ المرامِ.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6